فصل: تفسير الآية رقم (199):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (199):

{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)}
قيل: الخطاب للحمس، فإنهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفات، بل كانوا يقفون بالمزدلفة وهي من الحرم، وكانوا يقولون: نحن قطين الله، فينبغي لنا أن نعظم الحرم، ولا نعظم شيئا من الحل، وكانوا مع معرفتهم وإقرارهم إن عرفة موقف إبراهيم عليه السلام لا يخرجون من الحرم، ويقفون بجمع ويفيضون منه ويقف الناس بعرفة، فقيل لهم: أفيضوا مع الجملة. و{ثم} ليست في هذه الآية للترتيب وإنما هي لعطف جملة كلام هي منها منقطعة.
وقال الضحاك: المخاطب بالآية جملة الامة، والمراد ب {الناس} إبراهيم عليه السلام، كما قال: {الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران: 173] وهو يريد واحدا. ويحتمل على هذا أن يؤمروا بالإفاضة من عرفة، ويحتمل أن تكون إفاضة أخرى، وهي التي من المزدلفة، فتجيء {ثم} على هذا الاحتمال على بابها، وعلى هذا الاحتمال عول الطبري. والمعنى: أفيضوا من حيت أفاض إبراهيم من مزدلفة جمع، أي ثم أفيضوا إلى منى لان الإفاضة من عرفات قبل الإفاضة من جمع.
قلت: ويكون في هذا حجة لمن أوجب الوقوف بالمزدلفة، للأمر بالإفاضة منها، والله أعلم. والصحيح في تأويل هذه الآية من القولين القول الأول.
روى الترمذي عن عائشة قالت: كانت قريش ومن كان على دينها وهم الحمس يقفون بالمزدلفة يقولون: نحن قطين الله، وكان من سواهم يقفون بعرفة، فأنزل الله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ}. هذا حديث حسن صحيح.
وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: الحمس هم الذين أنزل الله فيهم: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ} قالت: كان الناس يفيضون من عرفات، وكان الحمس يفيضون من المزدلفة، يقولون: لا نفيض إلا من الحرم، فلما نزلت: {أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ} رجعوا إلى عرفات. وهذا نص صريح، ومثله كثير صحيح، فلا معول على غيره من الأقوال. والله المستعان. وقرأ سعيد بن جبير {الناسي} وتأويله آدم عليه السلام، لقوله تعالى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115]. ويجوز عند بعضهم تخفيف الياء فيقول الناس، كالقاض والهاد. ابن عطية: أما جوازه في العربية فذكره سيبويه، وأما جوازه مقروءا به فلا أحفظه. وأمر تعالى بالاستغفار لأنها مواطنه، ومظان القبول ومساقط الرحمة. وقالت فرقة: المعنى واستغفروا الله من فعلكم الذي كان مخالفا لسنة إبراهيم في وقوفكم بقزح من المزدلفة دون عرفة.
الثانية: روى أبو داود عن علي قال: فلما أصبح- يعني النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقف على قزح فقال: «هذا قزح وهو الموقف وجمع كلها موقف ونحرت هاهنا ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم». فحكم الحجيج إذا دفعوا من عرفة إلى المزدلفة ان يبيتوا بها ثم يغلس بالصبح الامام بالناس ويقفون بالمشعر الحرام. وقزح هو الجبل الذي يقف عليه الامام، ولا يزالون يذكرون الله ويدعون إلى قرب طلوع الشمس، ثم يدفعون قبل الطلوع، على مخالفة العرب، فإنهم كانوا يدفعون بعد الطلوع ويقولون: أشرق ثبير، كيما نغير، أي كيما نقرب من التحلل فنتوصل إلى الإغارة.
وروى البخاري عن عمرو بن ميمون قال: شهدت عمر صلى بجمع الصبح ثم وقف فقال: إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس ويقولون: أشرق ثبير، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خالفهم فدفع قبل أن تطلع الشمس.
وروى ابن عيينة عن ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة عن ابن طاوس عن أبيه أن أهل الجاهلية كانوا يدفعون من عرفة قبل غروب الشمس، وكانوا يدفعون من المزدلفة بعد طلوع الشمس، فأخر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا وعجل هذا، أخر الدفع من عرفة، وعجل الدفع من المزدلفة مخالفا هدى المشركين.
الثالثة: فإذا دفعوا قبل الطلوع فحكمهم أن يدفعوا على هيئة الدفع من عرفة، وهو أن يسير الامام بالناس سير العنق، فإذا وجد أحدهم فرجة زاد في العنق شيئا. والعنق: مشي للدواب معروف لا يجهل. والنص: فوق العنق، كالخبب أو فوق ذلك.
وفي صحيح مسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما وسيل: كيف كان يسير رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أفاض من عرفة؟ قال: كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص. قال هشام: والنص فوق العنق، وقد تقدم. ويستحب له أن يحرك في بطن محسر قدر رمية بحجر، فإن لم يفعل فلا حرج، وهو من منى.
وروى الثوري وغيره عن أبي الزبير عن جابر قال: دفع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليه السكينة وقال لهم: «أوضعوا في وادي محسر» وقال لهم: «خذوا عني مناسككم». فإذا أتوا مني وذلك غدوة يوم النحر، رموا جمرة العقبة بها ضحى ركبانا إن قدروا، ولا يستحب الركوب في غيرها من الجمار، ويرمونها بسبع حصيات، كل حصاة منها مثل حصي الخذف- على ما يأتي بيانه- فإذا رموها حل لهم كل ما حرم عليهم من اللباس والتفث كله، إلا النساء والطيب والصيد عند مالك وإسحاق في رواية أبي داود الخفاف عنه.
وقال عمر بن الخطاب وابن عمر: يحل له كل شيء إلا النساء والطيب. ومن تطيب عند مالك بعد الرمي وقبل الإفاضة لم ير عليه فدية، لما جاء في ذلك. ومن صاد عنده بعد أن رمى جمرة العقبة وقبل أن يفيض كان عليه الجزاء.
وقال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: يحل له كل شيء إلا النساء، وروي عن ابن عباس.
الرابعة: ويقطع الحاج التلبية بأول حصاة يرميها من جمرة العقبة، وعلى هذا أكثر أهل العلم بالمدينة وغيرها، وهو جائز مباح عند مالك. والمشهور عنه قطعها عند زوال الشمس من يوم عرفة، على ما ذكر في موطئة عن علي، وقال: هو الامر عندنا.
قلت: والأصل في هذه الجملة من السنة ما رواه مسلم عن الفضل بن عباس، وكان رديف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال في عشية عرفة وغداة جمع للناس حين دفعوا: «عليكم بالسكينة» وهو كاف ناقته حتى دخل محسرا «وهو من منى» قال: «عليكم بحصى الخذف الذي يرمي به الجمرة»، وقال: لم يزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلبي حتى رمى جمرة العقبة. في رواية: والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشير بيده كما يحذف الإنسان.
وفي البخاري عن عبد الله أنه انتهى إلى الجمرة الكبرى جعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، ورمى بسبع وقال: هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وروى الدارقطني عن عائشة قالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا رميتم وحلقتم وذبحتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء وحل لكم الثياب والطيب».
وفي البخاري عن عائشة قالت: طيبت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيدي هاتين، حين أحرم، ولحله حين أحل قبل أن يطوف، وبسطت يديها. وهذا هو التحلل الأصغر عند العلماء. والتحلل الأكبر: طواف الإفاضة، وهو الذي يحل النساء وجميع محظورات الإحرام، وسيأتي ذكره في سورة الحج إن شاء الله تعالى.

.تفسير الآية رقم (200):

{فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200)}
فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ} قال مجاهد: المناسك الذبائح وهراقة الدماء.
وقيل: هي شعائر الحج، لقوله عليه السلام: «خذوا عني مناسككم». المعنى: فإذا فعلتم منسكا من مناسك الحج فاذكروا الله وأثنوا عليه بآلائه عندكم. وأبو عمرو يدغم الكاف في الكاف، وكذلك {ما سَلَكَكُمْ} لأنهما مثلان. و{قَضَيْتُمْ} هنا بمعنى أديتم وفرغتم، قال الله تعالى: {فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة: 10] أي أديتم الجمعة. وقد يعبر بالقضاء عما فعل من العبادات خارج وقتها المحدود لها.
الثانية: قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ} كانت عادة العرب إذا قضت حجها تقف عند الجمرة، فتفاخر بالآباء، وتذكر أيام أسلافها من بسالة وكرم، وغير ذلك، حتى أن الواحد منهم ليقول: اللهم إن أبي كان عظيم القبة، عظيم الجفنة، كثير المال، فأعطني مثل ما أعطيته، فلا يذكر غير أبيه، فنزلت الآية ليلزموا أنفسهم ذكر الله أكثر من التزامهم ذكر آبائهم أيام الجاهلية. هذا قول جمهور المفسرين.
وقال ابن عباس وعطاء والضحاك والربيع: معنى الآية واذكروا الله كذكر الأطفال آباءهم وأمهاتهم: أبه أمه، أي فاستغيثوا به والجئوا إليه كما كنتم تفعلون في حال صغركم بآبائكم. وقالت طائفة: معنى الآية اذكروا الله وعظموه وذبوا عن حرمه، وادفعوا من أراد الشرك في دينه ومشاعره، كما تذكرون آباءكم بالخير إذا غض أحد منهم، وتحمون جوانبهم وتذبون عنهم.
وقال أبو الجوزاء لابن عباس: إن الرجل اليوم لا يذكر أباه، فما معنى الآية؟ قال: ليس كذلك، ولكن أن تغضب لله تعالى إذا عصى أشد من غضبك لوالديك إذا شتما. والكاف من قوله: {كَذِكْرِكُمْ} في موضع نصب، أي ذكرا كذكركم. {أَوْ أَشَدَّ} قال الزجاج: {أَوْ أَشَدَّ} في موضع خفض عطفا على ذكركم، المعنى: أو كأشد ذكرا، ولم ينصرف لأنه أفعل صفة، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى أو اذكروه أشد. و{ذِكْراً} نصب على البيان.
قوله تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا} {من} في موضع رفع بالابتداء، وإن شئت بالصفة يقول: {رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا} صلة {من} المراد المشركون. قال أبو وائل والسدي وابن زيد: كانت العرب في الجاهلية تدعوا في مصالح الدنيا فقط، فكانوا يسألون الإبل والغنم والظفر بالعدو، ولا يطلبون الآخرة، إذ كانوا لا يعرفونها ولا يؤمنون بها، فنهوا عن ذلك الدعاء المخصوص بأمر الدنيا، وجاء النهي في صيغة الخبر عنهم. ويجوز أن يتناول هذا الوعيد المؤمن أيضا إذا قصر دعواته في الدنيا، وعلى هذا ف {ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} أي كخلاق الذي يسأل الآخرة والخلاق النصيب. و{من} زائدة وقد تقدم.

.تفسير الآية رقم (201):

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201)}
قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201)} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ} أي من الناس، وهم المسلمون يطلبون خير الدنيا والآخرة. واختلف في تأويل الحسنتين على أقوال عديدة، فروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن الحسنة في الدنيا المرأة الحسناء، وفي الآخرة الحور العين. {وَقِنا عَذابَ النَّارِ}: المرأة السوء.
قلت: وهذا فيه بعد، ولا يصح عن علي، لأن النار حقيقة في النار المحرقة، وعبارة المرأة عن النار تجوز.
وقال قتادة: حسنة الدنيا العافية في الصحة وكفاف المال.
وقال الحسن: حسنة الدنيا العلم والعبادة. وقيل غير هذا. والذي عليه أكثر أهل العلم أن المراد بالحسنتين نعم الدنيا والآخرة. وهذا هو الصحيح، فإن اللفظ يقتضي هذا كله، فإن {حَسَنَةً} نكرة في سياق الدعاء، فهو محتمل لكل حسنة من الحسنات على البدل. وحسنة الآخرة: الجنة بإجماع.
وقيل: لم يرد حسنة واحدة، بل أراد: أعطنا في الدنيا عطية حسنة، فحذف الاسم.
الثانية: قوله تعالى: {وَقِنا عَذابَ النَّارِ} أصل قنا أو قنا، حذفت الواو كما حذفت في يقي ويشي، لأنها بين ياء وكسرة، مثل يعد، هذا قول البصريين.
وقال الكوفيون: حذفت فرقا بين اللازم والمتعدي. قال محمد بن يزيد: هذا خطأ، لأن العرب تقول: ورم يرم، فيحذفون الواو. والمراد بالآية الدعاء في ألا يكون المرء ممن يدخلها بمعاصيه وتخرجه الشفاعة. ويحتمل أن يكون دعاء مؤكدا لطلب دخول الجنة، لتكون الرغبة في معنى النجاة والفوز من الطرفين، كما قال أحد الصحابة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنا إنما أقول في دعائي: اللهم أدخلني الجنة وعافني من النار، ولا أدرى ما دندنتك ولا دندنة معاذ. فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «حولها ندندن» خرجه أبو داود في سننه وابن ماجه أيضا.
الثالثة: هذه الآية من جوامع الدعاء التي عمت الدنيا والآخرة. قيل لأنس: ادع الله لنا، فقال: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. قالوا: زدنا. قال: ما تريدون! قد سألت الدنيا والآخرة!.
وفي الصحيحين عن أنس قال: كان أكثر دعوة يدعو بها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «اللهم آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ». قال: فكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها، فإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه.
وفي حديث عمر أنه كان يطوف بالبيت وهو يقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. ماله هجيرى غيرها، ذكره أبو عبيد.
وقال ابن جريج: بلغني أنه كان يأمر أن يكون أكثر دعاء المسلم في الموقف هذه الآية: {رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ}.
وقال ابن عباس: إن عند الركن ملكا قائما منذ خلق الله السموات والأرض يقول آمين، فقولوا: {رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ} وسيل عطاء بن أبي رباح عن الركن اليماني وهو يطوف بالبيت، فقال عطاء: حدثني أبو هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «وكل به سبعون ملكا فمن قال اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار قالوا آمين» الحديث. خرجه ابن ماجه في السنن، وسيأتي بكماله مسندا في الحج إن شاء الله.

.تفسير الآية رقم (202):

{أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} هذا يرجع إلى الفريق الثاني فريق الإسلام، أي لهم ثواب الحج أو ثواب الدعاء، فإن دعاء المؤمن عبادة.
وقيل: يرجع {أُولئِكَ} إلى الفريقين، فللمؤمن ثواب عمله ودعائه، وللكافر عقاب شركه وقصر نظره على الدنيا، وهو مثل قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132].
الثانية: قوله تعالى: {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ} من سرع يسرع- مثل عظم يعظم- سرعا وسرعة، فهو سريع. {الحساب} مصدر كالمحاسبة، وقد يسمى المحسوب حسابا. والحساب العد: يقال: حسب يحسب حسابا وحسابه وحسبانا وحسبانا وحسبا، أي عد، وأنشد ابن الاعرابي:
يا جمل أسقاك بلا حسابه ** سقيا مليك حسن الربابة

قتلتني بالدل والخلابة

والحسب: ما عد من مفاخر المرء. ويقال: حسبه دينه. ويقال: ماله، ومنه الحديث: «الحسب المال والكرم التقوى» رواه سمرة بن جندب، أخرجه ابن ماجة، وهو في الشهاب أيضا. والرجل حسيب، وقد حسب حسابه بالضم مثل خطب خطابة. والمعنى في الآية: أن الله سبحانه سريع الحساب، لا يحتاج إلى عد ولا إلى عقد ولا إلى إعمال فكر كما يفعله الحساب، ولهذا قال وقوله الحق: {وَكَفى بِنا حاسِبِينَ} وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «اللهم منزل الكتاب سريع الحساب» الحديث. فالله عز وجل عالم بما للعباد وعليهم فلا يحتاج إلى تذكر وتأمل، إذا قد علم ما للحاسب وعليه، لأن الفائدة في الحساب علم حقيقته.
وقيل: سريع المجازاة للعباد بأعمالهم.
وقيل: المعنى لا يشغله شأن عن شأن، فيحاسبهم في حالة واحدة، كما قال وقوله الحق: {ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ}. قال الحسن: حسابه أسرع من لمح البصر، وفي الخبر: «إن الله يحاسب في قدر حلب شاة».
وقيل: هو أنه إذا حاسب واحدا فقد حاسب جميع الخلق. وقيل لعلى بن أبى طالب رضي الله عنه كيف يحاسب الله العباد في يوم؟ قال كما يرزقهم في يوم! ومعنى الحساب: تعريف الله عباده مقادير الجزاء على أعمالهم، وتذكيره إياهم بما قد نسوه، بدليل قوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ}.
وقيل: معنى الآية سريع بمجيء يوم الحساب، فالمقصد بالآية الإنذار بيوم القيامة.
قلت: والكل محتمل، فيأخذ العبد لنفسه في تخفيف الحساب عنه بالأعمال الصالحة، وإنما يخف الحساب في الآخرة على من حاسب نفسه في الدنيا.
الثالثة: قال ابن عباس في قوله تعالى: {أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} هو الرجل يأخذ مالا يحج به عن غيره، فيكون له ثواب. وروي عنه في هذه الآية أن رجلا قال: يا رسول الله، مات أبي ولم يحج، أفأحج عنه؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو كان على أبيك دين فقضيته أما كان ذلك يجزي». قال نعم. قال: «فدين الله أحق أن يقضى». قال: فهل لي من أجر؟ فأنزل الله تعالى: {أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} يعني من حج عن منيت كان الأجر بينه وبين الميت. قال أبو عبد الله محمد بن خويز منداد في أحكامه: قول ابن عباس نحو قول مالك، لأن تحصيل مذهب مالك أن المحجوج عنه يحصل له ثواب النفقة، والحجة للحاج، فكأنه يكون له ثواب بدنه وأعماله، وللمحجوج عنه ثواب ماله وإنفاقه، ولهذا قلنا: لا يختلف في هذا حكم من حج عن نفسه حجة الإسلام أو لم يحج، لأن الأعمال التي تدخلها النيابة لا يختلف حكم المستناب فيها بين أن يكون قد أدى عن نفسه أو لم يؤد، اعتبارا بأعمال الدين والدنيا. ألا ترى أن الذي عليه زكاة أو كفارة أو غير ذلك يجوز أن يؤدي عن غيره وإن لم يؤد عن نفسه، وكذلك من لم يراع مصالحه في الدنيا يصح أن ينوب عن غيره من مثلها فتتم لغيره وإن لم تتم لنفسه، ويزوج غيره وإن لم يزوج نفسه.